الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
من الحكمة أن تُعْرَض علينا أمراض الذين من قبلنا كي نتعظ بغيرنا فلا نقع فيما وقعوا فيه:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن والعشرين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثالثة والستين وهي قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)﴾
يُتابع الله جلَّ جلاله الحديث عن بني إسرائيل، وقد بيَّنت لكم من قبل أن كل الأمراض التي وقعوا فيها قد تزل قدم المسلمين فيقعوا في مثلها، فلذلك من الأسلوب الحكيم أن تُعْرَض علينا أمراض الذين من قبلنا كي نتعظ بغيرنا فلا نقع فيما وقعوا فيه، كل امتنانٍ من الله على بني إسرائيل في عهد موسى هو امتنانٌ على ذريَّتهم في عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم، لأن الكاف للخطاب: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ هذا الميثاق هذا التكليف الذي كُلِّفتم به، هذا العهد بطاعة الله، هذا العهد بإقامة العدل في الأرض .
أيها الإخوة؛ أرسل النبي عليه الصلاة والسلام سيدنا عبد الله بن رواحة ليُقدِّر تمر خَيْبَر، فهناك اتفاقٌ بين النبي عليه الصلاة والسلام ويهود خيبر أن يأخذ نصف غلَّتهم من التمر، فكلَّف النبي الكريم عبد الله بن رواحة ليُقَدِّر الثمر، أرادوا أن يرشوه، أرادوا أن يعطوه حلياً من حليِّ نسائهم ليكون التقدير أقلَّ مما ينبغي فيربحون، فقال هذا الصحابي الجليل قولته الرائعة: "والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إليّ من عند رسول الله، ولأنتم أبغضُ إليَّ من القردة والخنازير، ومع ذلك لن أحيف عليكم" ، فقال اليهود: "بمثل هذا قامت السماوات والأرض، وبمثل هذا غلبتمونا" .
الإنسان مخيَّر ولكن الله عزَّ وجل يسوق له الشدائد ليحمله على التوبة:
دقِّقوا إذا أقمنا الحق نغلب أعداءنا، بمثل هذا قامت السماوات والأرض، وبسبب هذا غلبتمونا، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ﴾ لا يزال ربنا عزَّ وجل يمتنُّ على بني إسرائيل، يمتنُّ على آبائهم في عهد موسى وهو امتنانٌ حكميٌّ على ذرِّيتهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، لولا هذا الميثاق، ولولا هذا التكليف ولولا ولولا لما عرفتم خالقكم، ولا عرفتم سرَّ وجودكم، فهذا من فضل الله عزَّ وجل.
توجد نقطة دقيقة جداً: الإنسان مخيَّر قولاً واحداً، لكن لماذا يسوق الله عزَّ وجل له الشدائد؟ ليحمله على التوبة، هل هذه الشدائد التي يسوقها الله للمُقَصِّرين تُلغي اختيارهم؟ الجواب: لا، الإنسان مخيَّر، ولكن الله أحياناً يرسل مصيبةً، هذه المصيبة تقع فيما لو رفضنا منهج الله، فإذا قبلناه أُزيحَتْ عنا، هذا ليس يتناقض مع الإكراه في الدين، ولكن هذا من تربية الحكيم العليم، أي هذا الأب الذي يشتدُّ على ابنه في سنين الدراسة ليكون علماً من أعلام الأمَّة، هذه القسوة وهذا الخيار الصعب الذي وضع الأب ابنه فيه إما أن تدرس وإما أن أحرمك من كذا وكذا، هذا لم يلغِ اختيار الابن ولكن دفعه إلى أن يختار الأفضل.
ربنا عزَّ وجل يدفعنا إلى أن نختار الأفضل:
إذاً ربنا عزَّ وجل يدفعنا إلى أن نختار الأفضل، يؤكّد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)﴾
فإن أصررتم: ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ وما ذلك على الله بعزيز، ﴿وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً﴾ وما ذلك على الله بعزيز، معنى ذلك أن الحكيم المربي لو أن هذا الذي أمامه اختار الأسوأ، واختار الهلاك، واختار الضلال، لابدّ للمربي الحكيم من أن يدفعه إلى أن يختار الصواب، حينما يسوق ربنا جلَّ جلاله الشدائد للمقصِّرين كي يدفعهم إلى الطاعة، وكي يدفعهم إلى الاستقامة، وكي يدفعهم إلى الصلح مع الله، هذا أسلوب الحكيم، هذا أسلوب المربي الرحيم، هذا لا يُلغي الاختيار، الابن مخيَّر يدرس أو لا يدرس، ولكن الأب حينما يقول له: إن لم تدرس أمامك كذا وكذا، خيار صعب، لولا أن الله يسوق لعباده من الشدائد ما يسوقه لهم لما كان معظم الناس في طريق الإيمان سائرين.
الشدائد إذا حملت الإنسان على الطاعات انقلبت إلى نِعَمٍ باطنة:
ربنا عزَّ وجل نتق الجبل بمعنى زعزعه من مكانه وجعله فوقهم، فإما أن يطبِّقوا منهج الله وإما أن يقع عليهم، أي ألجأهم إلى طاعة الله، من هنا قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلاسِلِ». ))
أقْبِلْ على الله بسلاسل الإحسان لا بسلاسل الامتحان:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)﴾
قال المفسِّرون: جبل الطور الذي كلَّم به موسى عليه السلام نتقه أي زعزعه من مكانه وجعله فوقهم كالظُّلَّة، فإن لم يستقيموا على أمر الله أهلكهم بطريقةٍ أو بأخرى، والله أعلم، معنى هذه الآية، هذا الجبل -كما قال بعض المفسِّرين-جبل الطور نُتِقَ أي زُعْزِعَ من مكانه وهدَّدهم بالهلاك إن لم يستقيموا على أمر الله، كم من إنسان أصيب بمرض عضال فتاب توبةً نصوحَاً، فحمله هذا المرض أو حمله شبح هذا المرض على طاعة الله والصلحِ معه، اسم هذا المرض يوم القيامة يبعث في نفس هذا المؤمن الذي اهتدى إلى الله عزَّ وجل كل سعادةٍ وسرور، إذا حملت الشدائد الإنسان على الطاعات انقلبت إلى نِعَمٍ باطنة وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)﴾
يجب أن تفهم الشدائد التي يسوقها الله للمسلمين اليوم كهذا الفهم تماماً، الشدائد التي يسوقها الله للمسلمين اليوم في كل بِقاع الأرض مثل هذا الذي حدث يدفعنا إلى طاعته.
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)﴾
هؤلاء الغربيون الذين يعيشون على أنقاض الشعوب، الذين يدمِّرون الشعوب، ينهبون ثرواتهم، يدمِّرون أسلحتهم، يجيعونهم كما ترون، هؤلاء ينطبق عليهم هذا المبدأ:
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ(4)وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5)وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)﴾
هذه سُنَّة الله في خلقه؛ إذا عصاني من يعرفني سلَّطت عليه من لا يعرفني، هذا أسلوب الحكيم، هذا أسلوب المُربي الرحيم، حينما تُساق الشدَّة من أجل أن تعرف الله:
﴿ إِنَّا بَلَونَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصحَابَ الْجَنةِ إِذْ أَقسَمُوا لَيصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ(17)وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19)فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)﴾
القصَّة معروفة، حينما انطلقوا إلى بساتينهم ليجنوا الثمر ويحرموا حقَّ الفقير:
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّون َ(26) بـَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ(27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(29)﴾
من قصَّر بالعمل ابتلاه الله بالهم:
قال تعالى:
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)﴾
أي عذابٍ في الأرض يساق للإنسان لهذه العلَّة، لعلَّة أن يهتدي، لعلَّة أن يعرف الله، لعلَّة أن يتوب إلى الله، لعلَّة أن يستقيم على أمر الله، لعلَّة أن يعرف سرَّ وجوده، أن يعرف غاية وجوده، لعلَّة أن يسعى إلى الآخرة، لعلَّة أن يسعى إلى جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، ووالله الذي لا إله إلا هو أكاد أقول إن معظم المسلمين، الصالحين، التائبين، الذين يعرفون الله، الذين اهتدوا إلى الله كانت هدايتهم بسبب شدَّةٍ ساقها الله إليهم، وهذه الشدة هي النعَمُ الباطنة التي لا نراها ظاهرة، هي النعَمُ الباطنة، أي إما أن تأتيه طائعاً، وإما أن يحملك على أن تأتيه طائعاً، اختر أحد الحالين؛ إما أن تأتيه طائعاً، وإما أن يحملك على أن تأتيه مكرهاً، هذا لا يتناقض مع الاختيار، ولكن يجسِّد رحمة الله عزّ وجل، ويجسِّد حرصه على سعادة الإنسان.
الأب الذي يُسَيِّب أولاده، لا يتعلَّمون، لا يعملون، فإذا كبروا كانوا في المؤخِّرة، كانوا مع الحُثالة، هؤلاء يلومون آباؤهم، والأب الذي يتشدَّد على أولاده ليحملهم على طاعة الله، وليحملهم على أن يكونوا شخصياتٍ فذَّةً في المستقبل هؤلاء يشكرونه طوال حياتهم على شدَّته معهم، هذا معنى الآية: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ﴾ من أجل ماذا؟ قال: ﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ هذه الآية دقيقة جداً، أي هذا الطور الذي رُفِعَ عليكم، هل هناك طورٌ آخر في حياة المسلمين؟ طبعاً، كل واحد له طور، شبح مرضٍ هو طور، شبح مشكلةٍ في الأسرة طور، شبح فقد مالٍ طور، شبح مرضٍ طور، شيء قوي، شيءٌ يُهَدِّدك، يهدِّد سلامتك، يهدِّد رزقك، يهدِّد سعادتك، يهدِّد أمنك طور، من قصَّر بالعمل ابتلاه الله بالهم.
مداخل الشيطان على الصالحين:
طبعاً هذه الآية بالمعنى الضيِّق، كان جبل الطور سبب حَمْل بني إسرائيل على أن يسيروا في منهج الله،
هذا أسلوب الحكيم، أسلوب الرحمن الرحيم، من أجل:
﴿خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾ طبِّق أمر الله بقوَّة، طبِّقه بحذافيره، ماذا يفعل الشيطان مع الإنسان؟ الشيطان يُغِري الإنسان بالكفر، فإن لم يكفر يغريه بالشرك، فإن لم يشرك يغريه بالابتداع، فإن لم يبتدع يغريه بالكبائر، فإن لم يقترفها يغريه بالصغائر، فإن لم يفعلها يغريه بالمُباحات، فإن ابتعد عنها يغريه بالتحريش بين المؤمنين، وهذه مداخل الشيطان على الصالحين، وكل مصيبة مخيفة هي طور، وكل بلاء متوقَّع طور، ونقص الأمطار طور، قد تجفُّ الآبار، قد يهلك الحرث والنسل هذا طور، شدَّة يسوقها الله للعباد ليحملهم على التوبة، كلَّما اتسعت رقعة الفسق والفجور قلَّ ماء السماء، كلَّما قلَّ ماء الحياء قلَّ ماء السماء، وكلَّما اتسعت الصحون على السطوح ضاقت صحون المائدة، وكلَّما رخُص لحم النساء غلا لحم الضأن، هكذا، هذا طور أيضاً بالمعنى الواسع، شدَّةٌ يسوقها الله للذين آمنوا به وقصَّروا في طاعته.
آيات دالة على مكانة الكفار الذين ينعمون بثروةٍ فلكيَّةٍ:
قد يقول أحدكم: فما بال هؤلاء الغربيين الذين ينعمون بثروةٍ فلكيَّةٍ؟ قال: هؤلاء ينطبق عليهم قول الله عزَّ وجل:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾
هؤلاء ينطبق عليهم:
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾
هؤلاء ينطبق عليهم قول الله عزَّ وجل:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
الناس في القبر سواسية مهما علا شأن الإنسان في الدنيا وكَبُر اسمه:
هل توازن بين شابين، أحد الشابين ليس له من يرعاه، في الطرقات، يسرق، ويرتكب الفواحش، ويُودَع في السجون، وليس له أبٌ يربيه، ولا رادعٌ أخلاقي،
ولا علمٌ يمنعه، وابن يتلقَّى شدَّة بالغة من أبيه ليكون متفوِّقاً، ليكون مستقيماً، هل تتوهَّم أن حالة هذا الشاب المتفلِّت أسعد من حالة هذا الشاب المُنضبط؟ لا، هذا ينتظره مستقبلٌ باهر، دقِّقوا في هذه الآية:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾
أيستوي هذا مع هذا؟
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
وقال:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)﴾
مهما كبُر اسم الإنسان، ومهما علا شأنه، ومهما مَلَك يُقال له في القبر: يا عبد الله، أيضاف على هذا الاسم لفظ آخر؟ يا عبد الله اعلم أن الجنَّة حق والنار حق، ويوم القيامة حق وما إلى ذلك، أيطلق عليه لقب كما كان يُطْلَق عليه في الدنيا؟ هل يقال لميتٍ في القبر حين التلقين -وإن كان التلقين لم يرد عن رسول الله-على كل هل يلقن الميت بألفاظ كبيرة؟ بألفاظ السيادة؟ أبداً، يا عبد الله، وهذا هو الموت الذي هو مصير كل حي.
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ﴾ ولعلَّ بعض المفسِّرين يقول: إنك إن ذكرت ما فيه أخذته بقوَّة، لا تكن عابداً فحسب، كن عابداً عالماً:
(( عن أبي أمامة الباهلي: ذُكِرَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم رجُلانِ؛ أحدهما عابدٌ، والآخَرُ عالِمٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: فضلُ العالمِ على العابدِ كفضلي على أدناكم ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إنَّ اللَّهَ وملائِكتَهُ وأَهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملةَ في جُحرِها وحتَّى الحوتَ ليصلُّونَ على معلِّمِ النَّاسِ الخيرَ. ))
فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ، قد يفور الإنسان أحياناً ثم يهمد، قد يُقبل ثم يدبر، قد يأتي طائعاً ثمَّ يتراجع، أما إذا بنى سلوكه على العلم، وعلى الدليل، وعلى العقيدة الصحيحة لن ينتكس، ولن يتراجع، هناك مئات من طلاب العلم، مئات من روَّاد المساجد أقبلوا، وانخرطوا، وبذلوا، فتنتهم امرأةٌ عن دينهم، فتنتهم وظيفةٌ مغريةٌ عن دينهم، لأنه لا يوجد لديهم أساس متين، لا تصمد العواطف أمام المغريات، العواطف لا تصمد أمام الضغوط، ولا أمام الإغراءات، المؤمن القوي لا يزحزحه عن إيمانه لا سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة، أحدٌ أحد، سيدنا بلال وضِعَت صخرةٌ عليه، اكفر، وهو يقول: أحدٌ أحد.
إنعام الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة:
إذاً: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لعلَّكم تتقون العذاب في الآخرة، لعلَّكم تتقون عذاب الدنيا، لعلَّكم تتقون الهلاك، لعلَّكم تتقون سَخَطَ الله عزَّ وجل، لعلَّكم تتقون الهلاك:
﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)﴾
أصبح البحر طريقاً يبساً أمامكم، عصا سيدنا موسى أصبحت ثعباناً مبيناً، نزع سيدنا موسى يده فإذا هي بيضاء للناظرين، كل هذه الآيات قالوا:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)﴾
ثمَّ عبدوا العجل من بعد ذلك ومع ذلك الله أرحم الراحمين، وهو الغفور الرحيم، وهو التوَّاب الرحيم، وهو قابل التوبة عن عباده: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ .
كل عمل الإنسان في الدنيا هو سببٌ لدخول الجنَّة وليس ثمناً لها:
أيها الإخوة؛ الجنَّة هي العطاء الحقيقي:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾
الفوز الحقيقي بلوغ الجنَّة، الفوز الحقيقي النجاة من النار، هذا هو الفوز الحقيقي، والجنَّة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، هذه الجنة هي بفضل الله، فكيف نجمع بين قوله تعالى:
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)﴾
وبين قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الحديث الصحيح:
(( عن عائشة أم المؤمنين: سَدِّدُوا وقارِبُوا، وأَبْشِرُوا، فإنَّه لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه برَحْمَةٍ، واعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ أدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ. وفي روايةٍ بهذا الإسْنادِ، ولَمْ يَذْكُرْ: وأَبْشِرُوا. ))
التوفيق بين الآية والحديث هو أن للجنَّة ثمناً وأن للجنة سبباً، إيمانك بالله، واستقامتك على أمره، وعملك الصالح سببٌ لدخول الجنَّة، وليس ثمناً لها، بيت قيمته مئة مليون، إذا دفعت ثمن مفتاحه عشر ليرات، ودخلت البيت وسكنته بفضلٍ من الله عزَّ وجل فهل تقول: أنا اشتريت المفتاح يا أخي، أنا دخلته بهذا المفتاح؟ هذا ثمن المفتاح ولكنك لم تدفع ثمن البيت، بل دفعت ثمن المفتاح، فكل عمل الإنسان في الدنيا هو سببٌ لدخول الجنَّة، وليس ثمناً لها، الجنَّة برحمة الله، الجنة محض فضلٍ، وكل عملك سبب لدخولك الجنَّة، والسبب شيء والثمن شيءٌ آخر.
الأقوياء في الأرض عصي بيد الله يؤدِّب بهم من يشاء من عباده:
وعد والدٌ ابنه أن يشتري له درَّاجة غالية الثمن إذا نجح، فهذا الطفل لمَّا أخذ جلاءه ناجحاً توجَّه إلى بائع الدرَّاجات مباشرةً وقال له: أعطني هذه الدراجة وخذ هذا الجلاء، البائع لا يعطيه، لابدّ من أن يدفع الأب ثمن هذه الدراجة، أنت قدَّمت السبب الذي اشترطه الأب عليك ولم تقدِّم الثمن، الثمن يدفعه الأب، أنت قدَّمت السبب، فلذلك لو أنك عرفت الله، لو استقمت على أمره، لو أطعته، لو أنفقت مالك، هذه كلُّها أسباب، أما الثمن فهو فضل الله عزَّ وجل: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ كل واحد منَّا لم يتوله الله بالعناية، لو نشأ على معصية واستمرَّ عليها حتَّى الموت لجهنم، لكن ربنا عزَّ وجل رب العالمين عندما يغلط الإنسان يأتي العقاب، يأتي الردع، يأتي الحزن، يأتي الخوف، يأتي القلق، يأتي المرض، هذه كلُّها أدواتٌ تأديبيَّة، حتى إن الأقوياء في الأرض عصيّ بيد الله يؤدِّب بهم من يشاء من عباده:
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(129)﴾
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ هناك آيات كثيرة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)﴾
وقال:
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾
إذا حملت المعرفة الإنسان على طاعة الله فهذا أكبر فضلٍ يناله الإنسان في الدنيا:
إذا نوَّر الله عزَّ وجل قلب الإنسان ومنحه شيئاً من المعرفة، هذه المعرفة حملته على طاعة الله فهذا أكبر فضلٍ يناله الإنسان في الدنيا، قال الله عزَّ وجل:
﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)﴾
الذي معه ألف مليون دولار، قال الله عزَّ وجل:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
ألف مليون قليل:
﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)﴾
وقال:
﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)﴾
سحرة فرعون:
﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)﴾
الدنيا لا تستقيم لأحد أبداً:
كلامٌ دقيق: ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ إذا خيِّرت أن تركب سيَّارةً فخمةً لربع ساعةٍ فقط، أو أن تُمْنح دراجة غالية الثمن ماذا تختار؟ أن تركب هذه السيارة ربع ساعة أو أن تمنح هذه الدراجة تملُّكاً؟ إنَّك تختار الدراجة، إذا خيِّرت بين أن تركب هذه السيارة ربع ساعة، وبين أن تمتلك مثلها ملكيَّةً ثابتة، هل تتردَّد ثانية؟ أما إذا خيِّرت أن تركب هذه الدراجة ربع ساعة، وبين أن تتملَّك أكبر وأغلى سيَّارة، إذا تردَّد الإنسان ربع ثانية يكون مجنوناً، ﴿وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ المثال للتوضيح، الآخرة فيها نعيم مقيم وإلى الأبد، الدنيا مشحونة بالمتاعب، إنَّ هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، لا تستقيم لإنسان، يؤتى الصحَّة يخسر المال، يؤتى المال من دون صحَّة، صحَّة ومال زوجة سيئة، زوجة جيدة لا يوجد مال، زوجة جيدة لا يوجد أولاد، يوجد أولاد ولكن الدخل قليل، دخل وأولاد وزوجة يوجد مرض أبداً، هذه الدنيا لا تستقيم لأحد.
لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ فلا يغرَّ بطول العيش إنسانُ
﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ .
ما ورد في القرآن من أيام الأسبوع إلا الجمعة والسبت:
أيها الإخوة:
﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ(65)﴾
الأيام، الأحد تعني واحد، الاثنين اثنان، الثلاثاء ثلاثة، الأربعاء أربعة، الخميس خمسة، الجمعة ستَّة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)﴾
سُمِيَّ هذا اليوم يوم جمعة كي نجتمع، كي يأتي الإنسان إلى المسجد، كي يصغي إلى الحق، كي يعرف سرَّ وجوده: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ ما ورد في القرآن من أيام الأسبوع إلا الجمعة والسبت، يوم السبت عند اليهود يوم انقطاعٍ عن العمل، يوم عبادة، وعندنا نحن المسلمين يوم الجمعة يوم عبادةٍ واجتماعٍ، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه: مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلاثَ مِرَاتٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ. ))
إذاً: من ترك الجمعة ثلاث مرات من دون عذر نكتت نكتة سوداء في قلبه.
الإنسان بين رحمة الله في المسجد وبين فضل الله خارج المسجد:
الله عزَّ وجل يقول:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يخاطب المؤمنين:
﴿إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ﴾ حصراً:
﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ ما أرادك الله عزَّ وجل أن تبيع وتشتري في أوقات العبادة، ولا أمرك في أوقات الراحة ألا تعمل، أرادك أن تتعبدَه، وأن تعمل لدنياك، لذلك:
﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)﴾
كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل المسجد يدعو ويقول:
(( عن أبي حميد: إذا دخَل أحدُكم المسجد، فَلْيَقُلْ: اللَّهمَّ افْتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللَّهمَّ إني أسألك من فضلك. ))
أنت بين رحمة الله في المسجد، وبين فضل الله خارج المسجد.
المؤمن أيها الإخوة؛ يأتي إلى المسجد ليتلقَّى تعليمات خالقه، ويعود إلى المسجد ليقبض الجائزة، وجودك هنا لمهمَّتين، كيف أن الشركات الضخمة لها مندوبو مبيعات يأتي المندوب الساعة الثامنة يأخذ التعليمات ويأتي مساءً ليقدِّم كشف الحساب ويأخذ العمولة،
فكل مسلم صادق إذا توهَّم أن مجرَّد مجيئه إلى المسجد هو العبادة هذا خطأ كبير جداً، تأتي إلى المسجد لتتعرَّف إلى الله، وإلى منهجه، وإلى افعل ولا تفعل، فإذا عُدَّت لتصلي في المسجد كي تقبض الجائزة، أما أن تتوهَّم أنه لمجرَّد حضورك في المسجد فقد كنت عابِداً، لا، لابدّ أن تطبِّق الدين في الطريق، في المتجر، في البيت، معك التعليمات، التطبيق هناك، هنا أخذ التعليمات وقبض الجائزة، وفي البيت، والطريق، والعمل، والمتجر، والسفر، والإقامة هناك تنفِّذ هذه التعليمات، فالإنسان ينبغي أن يعمل وأن يتعبَّد كما ورد في الأثر: ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، إلا أن يتزوَّد منهما معاً، فإن الأولى مطيَّةٌ للثانية، قال تعالى:
﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ(26)﴾
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال عليه الصلاة والسلام: المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضعيفِ وفي كلٍ خيرٌ. ))
القوَّة قوة مال، والقوة قوة علم، والقوة قوة مركز، إذا كنت في مركزٍ قوي بإمكانك أن تنفع المسلمين:
﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾
إن كنت بحجمٍ ماليٍ كبير يمكن أن تحل مشكلات آلاف المسلمين، تزوِّج الشباب، تطعم الفقراء، تبني المساجد، تبني المدارس الشرعيَّة، تبني المستشفيات، وإذا كنت عالماً وانتفع الناس بعلمك فهذه قوَّة:
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾
حينما تجعل من يوم العبادة يوم عمل فقد عصيت الله عزَّ وجل لأن هذا يوم عيد:
العلم قوَّة، والمال المشروع قوة إذا اكتسبته من طريقٍ مشروع، والعلم الشرعي معرفة الله عزَّ وجل ومعرفة منهجه، والمركز الذي لا يُبْنَى على معصية الله يُبْنَى على طاعة الله، لذلك أرادنا الله جلَّ جلاله أن نعمل وأن نتعبَّد في الوقت نفسه، سيدنا عمر يقول: "إذا رأيت الرجل ليس له عمل يسقط من عيني"، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ». ))
كن منتجاً، كن منفقاً، لكن حينما تجعل من يوم العبادة يوم عمل:
"إنَّ لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل." حينما تجعل من يوم العبادة يوم عمل فقد عصيت الله عزَّ وجل، يوم الجمعة، يوم صلاة الجمعة المسلم الصادق يهيِّئ البيت تهيئة خاصَّة، هذا اليوم ليس يوم تنظيف ولا حلّ مشكلات، ولا أن يقوم البيت ولا يقعد يوم الجمعة، هذا يوم عيد، يجب أن تهيِّئ الأهل والأولاد ليكونوا معك في صلاة الجمعة ليؤدوا هذه العبادة التعليميَّة التي جعلها الله حدَّاً أدنى لطلب العلم، كما يقال: محواً للأميَّة، محواً لأميَّة الدين، قد يحمل الإنسان أعلى شهادة وهو في الدين أمي، كما أن أكبر عالِمٍ في الدين إذا أعطي تخطيط قلب نقول: هذا أمي في هذا التخطيط، يجد خطوطاً هكذا، أما إذا قرأ الطبيب التخطيط يفهم الشيء الكثير، بينما أكبر عالِمٍ في الدين يُعدُّ أمياً في الطب، وبالمقابل وقد يحمل إنسان أعلى شهادة وهو في الدين أميّ.
إنسان حجَّ من بلد عربي، ويحتل منصباً رفيعاً في وزارة، ففي طريق العودة قال: والله الحج جيد، لكن ليت القائمين على هذه الشعيرة يجعلونه على مدار السنة دفعاً للازدحام، معنى هذا أنه جاهلٌ في الدين، فقد يكون الإنسان مثقَّفاً أعلى ثقافة، وهو في الدين أمي، لذلك ينبغي أن تطلب العلم الديني، وأن تعمل لكسب رزقك.
هناك من يجتهد ليحل كل شيء إلى أن أصبح الدين شكلاً بلا مضمون:
أما اليهود ماذا فعلوا؟ يوم السبت يوم عبادة فأنشؤوا أحواضاً فتحوها يوم السبت كي تأتيهم الحيتان يوم سبتهم، أغلقوها مساء السبت، واصطادوها يوم الأحد، أي حيلة شرعيَّة، وهذا ما يفعله بعض المسلمين، لعلَّها الآن تقلَّصت لضعف الدين أساساً، كان يضع زكاة ماله برغيف خبز، يهبها لفقير، والفقير لا يدري أن في الرغيف خمسة آلاف ليرة، يقول له: هل تهبني هذا الرغيف بخمس ليرات؟! يقول له: أتمنَّى، يقول لك: أنا دفعت زكاة مالي للفقير، هذا شيء مضحك، وعلى هذا تقاس أشياء كثيرة جداً، نغير الأسماء فتصير المحرَّمات مباحات، نقوم بتعليلات، اجتهادات، نقول: هذا القرض ليس القصد منه الاستغلال، قرض استثماري إذاً لا يوجد فيه تحريم، من قال لك ذلك؟!!
هناك من يجتهد ليُحلّ كل شيء إلى أن أصبح الدين شكلاً بلا مضمون، شكلاً بلا منهج، كل شيء مباح، توجد الآن فتاوى كل شيء مباح، التمثيل، والغناء، والاختلاط، لم يبق في الدين شيء محرَّم، تحت إطار الدين والتطور والمرونة، أين الدين؟ الدين توقيفي أيها الإخوة، الدين دين الله عزَّ وجل، الدين ما جاء به الكتاب والسنة، أما أن نفلسف، وأن نكون مرنين، وأن نطوِّر إلى أن نبيح كل شيء، هذا الشيء ليس من الدين في شيء .
قال العلماء عن هؤلاء الذين احتالوا حيلاً شرعيَّة: لو أنك لا سمح الله ولا قدَّر فعلت المعصية ولم تقولبها بحيلةٍ شرعيَّة لكان أفضل، إنك حينما قولبتها بحيلةٍ شرعيَّة لا تتوب منها، تظن أنك على حق، أما حينما تفعلها مجرَّدةً من حيلةٍ شرعيَّة تتوب من هذا الذنب، أي أخطر شيء عندك مجموعة فتاوى غير صحيحة لمعاصٍ كبيرة وأنت مرتاح على أن هناك فتاوى فيها، هذه الفتاوى لا تُقْبَل عند الله عزَّ وجل، لذلك أنا أقول دائماً: لكل معصية فتوى، أنت ماذا تريد فتوى أم تقوى؟ الفتوى موجودة إذا أردت، لا تعدم فتوى لكل معصيةٍ مهما تكن كبيرة، يوجد، هناك من يفتي بها، والذي يفتي بها جعل من نفسه جسراً إلى النار.
من يعرف الأمر ولا يعرف الآمر يتفنَّن في التفلُّت من الأمر:
حدثني أحد علماء دمشق الأجلاء أنه كان في حضرة عالمٍ يُحتضَر، في وقت النَزع، قال لي: والله شاهدته بأمِّ عيني رفع يديه إلى السماء هكذا وقال: يا رب أنا بريء من كل فتوى أصدرتها في الموضوع الفُلاني، موضوع الفوائد والمصارف، وهو في النزع الأخير، ولكن ما الفائدة من هذه التوبة وهو على فراش الموت؟ هناك من يُفتي بأشياء حَرَّمها الله، ثلاثة وثمانون ملياراً أودِعَت في البنوك عقب فتوى، ثلاثة وثمانون ملياراً في بلد عربي عقب فتوى ليست كما يريد الله عزَّ وجل.
على كل هذا الذي يعرف الأمر ولا يعرف الآمر يتفنَّن في التفلُّت من الأمر، أما الذي يعرف الآمر ويعرف الأمر يتفانى في طاعة الآمر:
﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)﴾
تريد أن تبيع هذه السلعة بعقدين، بعقد مع الزيادة وعقد بلا زيادة، قرأت مقالة طريفة جداً، بكم هذه السلعة؟ تقول له مثلاً بألف، يسألك: ماذا تطبخ اليوم؟ تقول له: فاصولياء، انتهى أول مجلس، الثاني دخل، ما دام دخل موضوع غريب، ماذا تأكل اليوم؟ هذا موضوع جديد، فانتهى أول مجلس، صار المجلس الثاني، وهذه بألف وخمسمئة بطريقةٍ أو بأخرى دخل في موضوع آخر، فهذا الذي يفعل هذا الله عزَّ وجل ناظرٌ، سميعٌ، عليمٌ، بصير، ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ قال بعض المفسِّرين: جعلهم الله قردةً، وهذا المَسخ لا يتناسل وانقرضوا، فإذا قلت: مازال هناك يهود؟ ليسوا جميعاً كانوا عصاةً فَمُسِخَ الذي عصى، هذا رأي.
والرأي الثاني مُسِخوا قردةً وخنازير وعَبدَ الطاغوت، ما معنى ذلك؟ القرد عورته ظاهرة وشكله قبيح، وهمُّه شهوته، إذا رأيت إنساناً عورته ظاهرة، ولا يبالي بسمعته، وهمُّه فرجه وبطنه هذا قرد بالمفهوم السلوكي والقيَمي، قال بعض العلماء: مسخوا قردة أي بأخلاق القردة، ووقاحة القردة، ودمامة القردة، وعدم حياء القردة، إذا مشى إنسان مع زوجته بثيابٍ فاضحة لا يبقى منها شيء إلا وهو ظاهر أليس قرداً؟ بل إن الذين يرفضون نظرية دارون بعضهم آمن بها مجدَّداً لكنَّها معكوسة، كان إنساناً فصار قرداً لا يستحي، ولا يخجل، ولا ينصاع لأمر، ولا لقيمة، ولا لخُلُق، فالذين قالوا: مسخوا قردةً حقيقيين لهم أدلَّتهم، والذين قالوا: مسخوا بأخلاقهم وقيمهم قردةً لهم أدلَّتهم أيضاً، والقرآن حمَّال أوجه لك أن تفهمه هكذا أو هكذا.
تعريف بسيط للقردة والخنازير وعبدة الطاغوت:
على كل إذا كانت عورة الإنسان مكشوفة ولا يستحي بها، وهمُّه بطنه وفرجه، هذا قرد بالمعنى السلوكي، وهناك من مُسِخ خنزيراً لا يغار على عرضه، أو يرضى الفاحشة في أهله، والله قال لي إنسان رأى بأم عينه: دخل إلى بيت إنسان وقال له: هذه زوجتي، وهذه أختي، وهذه أخت زوجتي، وأعطى الأسعار، أسعار دقيقة، هذا خنزير، هذا الذي لا يغار على عِرضه أو يرضى الفاحشة في أهله هذا خنزير.
وعَبَدَ الطاغوت هم الذين ما وحدوا ربهم، أي خافوا من دون مبرِّر، عصوا ربَّهم وأرضوا مخلوقاً، من أرضى الناس بسخط الله سخط عنه الله وأسخط عنه الناس، فالناس مُسِخوا إما قردة عورتهم ظاهرة وهمُّهم بطنهم وفرجهم، وإما خنازير لا يغارون على أعراضهم، وإما عبدة طاغوت يخضعون، قال له: "يا بني الناس ثلاثة، عالمٌ ربَّاني، ومتعلِّمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق فاحذر يا كميل أن تكون منهم" .
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ خاسئين أي مهزومين، وأكبر هزيمة أن تُهْزَم أمام نفسك، أكبر هزيمة، مهزوم عند نفسك.
لا عقوبة بلا تجريم ولا تجريم بلا تشريع:
قال تعالى:
﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)﴾
النكال العقاب الشديد، لمَّا جعلهم قردة خاسئين كان هذا تنكيلاً بهم، أي أوقع العقاب بهم ليكون لمن حولهم، ولمن بعدهم، ولكل مؤمنٍ ردعاً وموعظةً، لذلك قالوا: لا عقوبة بلا تجريم، ولا تجريم بلا تشريع، الله شرَّع فلمَّا خالفوا صار هناك جرم، وعندما صار هناك جرم صار هناك عقاب، هذا كلام دقيق:
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا ))
[ صحيح مسلم ]
لا عقوبة بلا تجريم ولا تجريم بلا تشريع، هناك نص، وهناك مخالفة، وهناك عقوبة، هكذا شأن العدل، هكذا شأن الحق جلَّ جلاله، فجعلنا هذا المسخ قردة وخنازير: ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا﴾ لمن حولها، ﴿وَمَا خَلْفَهَا﴾ لمن بعدهم، ﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ .
أكثر الأحكام الشرعية تصون المال والعرض:
أجروا إحصاءً فيدرالياً في عام خمسة وستين وتسعمئة وألف، حيث قُسِّمت جرائم الاغتصاب والقتل والسرقة على الثواني،
فوجدوا أنه كل ثلاثين ثانية تُرْتَكَبُ جريمة قتلٍ، أو سرقةٍ، أو اغتصاب، وحينما طُبِّق حكم قطع اليد في بعض البلاد الإسلاميَّة رأيت العجب العجاب، هل من الممكن لصرَّاف أن يدع كل أمواله على الطريق وأن يذهب ليصلي في المسجد؟ ممكن؟ هذا كان يحدث، من دون علم أيضاً لكن لأنه طُبِّق حكم قطع اليد، سُئل الإمام الشافعي من قِبَل شاعر، قال: يدٌ بخمس مئينٍ أي خمس مئات من الذهب:
يدٌ بخمس مئينٍ عسجد وديت ما بالها قُطِعَت في ربع دينارِ؟
إذا قُطِعَت في حادث سير فديَّتها خمسمئة دينار ذهبي، لو أن سائقاً أرعنَ أصاب إنساناً وقُطِعَت يده، ديَّتها خمسمئة دينار ذهبي، قال: ما بالها قُطِعَت في ربع دينارِ؟
أجابه الإمام الشافعي:
عزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري
فقال ابن الجوزي لما سئل عن ذلك: لمَّا كانت أمينة كانت ثمينة فلمَّا خانت هانت.
لذلك أكثر الأحكام الشرعية تصون المال والعرض، ما الفساد؟ حرية في كسب المال بلا رادع، وحرية في ارتكاب الموبقات والشهوات، لذلك يوجد عندنا جلد، ويوجد عندنا رجم، ويوجد عندنا قطع يد، أخطر شيء في الحياة صون الأعراض وصون الأموال، ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ .
الملف مدقق